لكل إنسان حيز دائري.. أو قطر حيوي.. يحيط بجسده ويتضايق حين يقتحمه الأغراب. وهذا الحيز نفسي وشخصي أكثر منه مادياً أو حقيقياً.. ويقدر قطره بين 40الى 120سم بحسب قوة علاقتنا بالشخص المقابل
*******
وجود هذا الحيز ظاهرة ملاحظة حتى لدى الحيوانات التي توسع نطاقها الخاص بالتبول في نقاط دائرية أو اطلاق رائحة قوية تبقى هي في مركزها. والبشر بدورهم يستولون على الاماكن المحيطة بهم - ليس لحاجتهم إليها - بل لمنع الأغراب من البقاء فيها. وهذا التصرف نراه كثيرا في المتنزهات والشواطئ حين تحتكر عائلة صغيرة المقاعد المحيطة بوضع ترمس القهوة أو بساط مهمل لتوسيع نطاقها الحيوي
والغريب أكثر هو اكتشاف علاقة قوية بين مظاهر العنف واقتحام الدائرة الشخصية للأفراد. فكلما اقترب الأغراب من بعضهم البعض زاد التوتر وارتفع احتمال الشجار بينهم.. ومن الأسباب التي تجعل سكان المدن أكثر توترا وعصبية من سكان الأرياف هو اضطرارهم للتعامل من الانتهاكات اليومية لدائرتهم الشخصية؛ فهم يضطرون للالتصاق بالأغراب في المصاعد والطائرات والطوابير وعند إشارات المرور.. وحين يصلون الى العمل يضطرون للاقتراب من المراجعين والجلوس بقرب الزملاء وتحمل وقوف المدير خلفهم ممليا أو موجها
*******
هناك دراسة تفيد بأن حوادث العنف بين ركاب الدرجة السياحية في القطارات والطائرات تزيد بثلاثة أضعاف على ركاب الدرجة الأولى.. حيث لايحتاج المسافرون للتنازع على مقعد فارغ أو مكان للحقائب أو حيز للقدمين.. غير أن الوضع يختلف بالنسبة لأفراد العائلة ومن نحبهم من الناس.. حيث تتقاطع الدوائر الشخصية بلا نفور أو عدم الارتياح؛ فقطر دائرتنا الشخصية يقل كلما زادت علاقتنا ومحبتنا بالشخص المقابل وهي تكاد تنعدم بين الزوجين أو الوالدين وأبنائهما. غير أن الدوائر المنسجمة - بين أفراد العائلة مثلا - تقاوم بدورها أي دائرة غريبة تحاول التداخل معها.. ولابد أنك شخصيا مررت بموقف مشابه.. في المصعد مثلا.. حيث تكون أنت وزوجتك آخر انسجام حتى يقتحم دائرتكما رجل غريب.. ففجأة يسود الارتباك ويعم الصمت وتهيم الأبصار وتمر اللحظات ثقيلة حتى يخرج - أو تخرجوا -.. وموقف كهذا قد يحدث أيضا في الطائرة أو البنك أو أي مكان انتظار يضطر فيه الناس للالتصاق ببعضهم البعض
*******
في الأحوال العادية تمر هذه الانتهاكات بسلام؛ ولكن على المدى الطويل قد تصبح - بدون ان نشعر - مقدمة للعنف وظهور أسوأ خصال البشر. فحين يحشر الموظفون في مكان ضيق تسوء اخلاقهم ويقل تركيزهم. ويعترف حراس السجون ان السجين يظل مسيطرا على نفسه حتى يقترب منه الحراس للتفاهم معه.. وفي الرحلات الجوية قد يغضب أحد المسافرين ولكنه لايفقد السيطرة على نفسه الا حين يقترب منه المضيف لتهدئته أو الهمس بإذنه.. وفي المقابل ثبت ان المشاكل الزوجية تخف كثيرا بعد الانتقال لمسكن أوسع. كما تقل عصبية الاطفال ويصبحون أكثر تركيزا بعد خروجهم من نطاق الشقق الضيقة وهو مايذكرنا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: أربع من السعادة: المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء. وأربع من الشقاء: المرأة السوء والجار السوء والمركب السوء... والمسكن الضيق