بشكل غريب في هذه الحياة, ننسى الهدف من وجودنا. هل وُجدنا في الأصل للأكل والشرب والتعلّم والارتباط وبناء المنازل وتكوين الأسر ثم الموت وترك الميراث؟
نعم.. هذا شيء طبيعي بل مقرر علينا كبشر أن نعيشه, لكن السؤال: هل هذا هو الهدف الأساس من وجودنا؟
نعلم يقيناً أن الغاية من إيجادنا هي عبادة الله وحده لا شريك له, ومن أجل هذا يجب علينا (منطقياً) أن نعمل ونُعِد. فما بالنا تغيب عنا هذه الحقيقة رغم رسوخها في الأذهان؟
*******
لماذا مثلاً, يغضب الوالدان على أحد الأبناء إذا بدت عليه عوارض الإهمال الدراسي؟ ثم يقومون بتأنيبه وعتابه بشكل تحليلي, ينص على أنه من الواجب عليه كشخص يريد الحياة السوّية, أن يتعلّم ويجتهد ويجدّ ويمضي في كافة السبل حتى يحصل على مركز في الحياة يُمَكِّنه من العيش بهناء ومن تكوين أسرة, إلخ.. لكن عندما يتعلق الأمر بجانب ديني, كترك الصلاة على سبيل المثال, فلا يجيء العتب واللوم بنفس الحدّة والشراسة اللتان كانتا موجودتان عندما تعلق الأمر بتأسيس الحياة
لقد أصبح عامة الناس يريدون بإخلاص أفضل ما في هذه الدنيا, بأي وسيلة كانت. حتى إن العلم الذي هو نور العقول وسراج النفوس, بات مجرد وسيلة لكسب السمعة والحصول على الجاه والحياة الثرية والمفعمة بأساليب الترف الممكنة! لا للحصول على عقل مستنير يعتمد عليه صاحبه ليحيا امرؤاً ذا وزن ثقيل في عالم المعرفة النقي
*******
استخدام الوسائل المغلوط هذا, يصاحبه طمع وعدم قناعة
فيأبى الكاتب إلاّ أن يصل إلى أبواب الشهرة العالمية برواياته ومآثره, ويبذل في سبيل ذلك كل مبذول
ولا يقنع رجل الأعمال بمئات الملايين التي جمعها طيلة سنين نشاطه التجاري, ويرغب بحزم في الدخول إلى عالم المليارديرات
ولا يكفي المرأة أن تتمتع بمنزل واسع فسيح, لأنها تريد بصدق أن تعيش في قصر يعجّ بالخدم
ولا يعجب الشاب أن يملك سيارة فخمة مثل سيارات الوزراء والرؤساء, لأنه يطمح وبشدة إلى أن يملك سيارة رياضية مكشوفة
فلماذا, تصفو نوايانا وتتجدد وتقوى ولا تضعف ولا تتأثر عندما نريد غرضاً دنيوياً ما؟ بينما في الإرادات المتعلقة بالدار الآخرة تضمحل وتضعف وتتلاشى بعد أن كانت قوية بالفطرة ومؤمنة بزوال الدار الدنيا؟؟
*******
لقد أمسينا نبحث وبلهفة وراء مطامع الدنيا, وسخّرنا من أجل ذلك كل مُسَخّر, ومع ذلك ليس لرغباتنا الدنيوية حدود
هل هذا من الطبيعة البشرية؟ أم أن شيئاً ما قد أحدث لدينا تشويشاً جذرياً في التصوّر إلى الحد الذي لم نعد معه نعرف ما الذي نريده فعلاً من فترة حياتنا (أعمارنا)؟
إن السبب الأكثر إقناعاً هو ضعف اليقين. لأن هذا الضعف بدوره يخلق انقلاب في المفاهيم, فنصبح نريد الحياة الدنيا لأصلها, ونبرر هذا بأن هذه هي سنة الحياة البشرية ونظامها
لكننا نعلم أن الدنيا دار فناء, بخلاف الآخرة التي هي دار خلود. فلماذا تُرانا نتجاهل هذا؟ أم أننا فعلاً أصبحنا نجهله؟؟
هل نعاني فعلاً من ضعف اليقين؟ أم أن شمس اليقين قد غابت من نفوسنا أصلاً؟؟
*******
الأسئلة كثيرة ومُحيّرة بالرغم من أنها تحمل ذات النمط الإنكاري
إن مثل هذا العتب لا يقوله ويحاجج به الفاشلون في الحياة فحسب, ولكن أهل العقول والناجحون أيضاً يلاحظون هذا التدني الاجتماعي المعرفي في المعارف المُسَلَّمة. إننا في حاجة إلى الالتفات مجدداً في ذواتنا, والإبحار في أرواحنا وعقولنا لنتأكد من الهدف الرئيس الذي نحيا من أجله
أقول لكل من يلهث وراء الدنيا ناسياً مآله ومصيره: هوّن عليك! فمردّ ذلك إلى الفناء
وأقول لكل من لم يحالفه الحظ في الحياة فأمسى يُنادى بالفاشل: لا تحزن, فالفشل وما تبعه من إحباط وبؤس ويأس وضياع, كلها أمور مرتبطة بشكل مباشر بالحياة الدنيا. وإذا كنت قد فشلت ولا مجال للنجاح فيها, فهذا لا يعني بالضرورة فشلك في الدار الآخرة. فاعمل ما استطعت لتلقى صحيفة مشرفة تغنيك عن شهادات الدنيا الخاوية, وتسمو بك إلى مراتب أثمن وأصدق وأكثر جدية من المعمول بها في هذه الحياة الفانية.. واعلم أن التفاوت في مسألة النجاح هو أمر وارد وموجود في الحياة البشرية في شتى حضاراتها وثقافاتها وكل صورها. وتأمل قول الله تعالى حينما يورد ذلك, ويذكّر في ذات الوقت بالتفاوت الأخروي الذي هو أعظم وأجدر بالحزن عليه.. فالله سبحانه وتعالى يقول: انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً
*******