أتذكر هذا الحلم جيدًا، وأحاول أن أجد له تفسيرًا يرضيني دون جدوى
لست من المؤمنين بالأحلام، ولا من المروجين لها؛ فأنا يا سيدي الفاضل رجل لا يؤمن بالخرافات ولا يضيع فيها وقته.. فقط النساء وضعاف النفوس يجدون في أي حلم نحلمه أسرارًا وحكايات وتفسيرات تكفي لتغيّر حياتك كلها، ولتنسف كل ما خططت من أجله لو لزم الأمر
لست ممن يثقلون في العشاء فينامون ليستيقظوا صارخين, مرددين أنه كان كابوسًا، وأن هذا الكابوس علامة من السماء أتتني كي لا آخذ تلك الطائرة أو أتم تلك الصفقة أو أعود لذلك المطعم.. الحلم بالنسبة لي هو مجرد حلم.. نوع من أنواع الترفيه الذي نحصل عليه عند النوم؛ بل هو أشبه بعرض مسائي تشاهده بمفردك على فراشك كل ليلة.. كأنك تدخل السينما على فراشك وبالمجان؛ لكن أن تخرج من السينما معلنًا أن هذا الفيلم سيغير حياتك وإلى الأبد؛ فهذه هي الحماقة كما ينبغي لها أن تكون
لكن بعض الأحلام يستحق بعض الاهتمام برغم كل شيء
بعضها يستحق أن يروى, وبعضها لا تجرؤ على تذكره, وبعضها يتكرر بلا انقطاع كل ليلة، وهذه هي مشكلتي أنا
*******
ليلة أمس كانت الليلة الحادية عشرة التي يتكرر فيها ذات الحلم العجيب, الذي حاولت البحث عن تفسير له يرضيني, دون جدوى.. أكرر.. الليلة الحادية عشرة.. أي أنني لا أبالغ ولا أخالف مبدأي, حين أقول: إن هذا الحلم عجيب حقًا, ويستحق بعض الاهتمام
لا أحد يحلم بذات الحلم، إحدى عشر مرة متوالية دون أن يشغل تفكيره ولو قليلاً؛ بل إنك ولو أردت رأيي يا سيدي الفاضل فاسمح لي أن أقول
لا أحد يحلم بالحلم ذاته أحد عشرة مرة أساسًا
في أول مرة رأيت فيها الحلم لم أتذكره.. في الثانية شعرت وكأنني رأيته من قبل, ثم وفي الثالثة، وعلى الرغم من نومي كنت موقنًا من أنه ذات الحلم الذي حلمت به في الليلة الماضية
بعد هذا أصبح الأمر مملاً إلى حد لا يوصف.. أدخل لأنام لأرى ذات الحلم، والذي حتى لو كان ممتعًا مثيرًا؛ فهو لا يستحق أن يتكرر كل هذه المرات؛ فما بالك وهو حلم عجيب لا يثير إلا الفضول؟
دعني أحكيه لك واحكم بنفسك
*******
يبدأ حلمي العجيب بي وأنا أسير في ذلك الطريق منكس الرأس كأن هناك ما يشغلني, وهنا تأتي أول ملاحظة.. أنا أرى نفسي من خارج جسدي.. أراني كأنما أرى مشهدًا لي مصورًا بكاميرا سينما شديدة الاحترافية
المشهد لي في نهار شتوي ضبابي, أسير في ذلك الشارع الشبه خاو في تلك الساعة المبكرة, بخطوات وئيدة متجهًا إلى واجهة ذلك المقهى الزجاجية.. أعبر الشارع بذات الخطوات اللامبالية, ثم أبلغ الواجهة التي تكثف البخار عليها ليحولها إلى لوحة بيضاء, فأمد يدي لأمسح طبقة البخار كاشفًا عمّا خلف الزجاج قبل أن ألصق وجهي بالزجاج البارد لأنظر إلى داخل المقهى؛ لكني -ولأنني أرى المشهد من الخارج لا أعرف ما الذي أنظر إليه داخل المقهى.. فقط أراني من ظهري وأنا أنظر عبر الزجاج.. أنظر وأرتجف
وإلى هنا يتوقف الحلم, لأستيقظ تملأني الحيرة ويقتلني الفضول
ما الذي أتى بي في هذا الطريق الذي أثق أنني لم أسر فيه واعيًا قط؟.. ولماذا اتجهت إلى هذا المقهى بالذات؟ وما الذي رأيته عبر واجهته الزجاجية وجعلني أرتجف؟؟
ثم والأهم من هذا كله.. لماذا يتكرر هذا الحلم كل ليلة, كأنني أنام في قاعة سينما لا تعرض إلا ذات الفيلم؟
في أول مرة لم أتذكر الحلم.. في الثانية بدا لي مكررًا, وفي الثالثة استيقظت لأحكيه لزوجتي فلم تهتم؛ لكن ومع الليلة السابعة لم تصدقني حتى أقسمت لها أنه يتكرر كل ليلة بذات التفاصيل, ليشغل تفكيرها هي الأخرى؛ لكنها لم تحذُ حذوي وتتوقف عند الحيرة والتساؤل؛ بل بدأت تبحث عن تفسير له في كتب ومواقع تفسير الأحلام, ليبدأ سيل التُرّهات في الانهمار عليّ؛ خاصة حين حكت زوجتي الحلم لصديقاتها ليتطوعن بتفسيرات لا تقل سذاجة عن ما قدمته لي هي بثقة كأنها بنت سيرين
أنت تسير في نهار شتوي، أي: أنك تشعر بالبرد أي الوحدة، أي أنك غير راض عن زوجتك؛ لأنها تشعرك بالوحدة!.. أنت تعبر الشارع ببطء أي: أنك تتمنى أن تدهسك سيارة مسرعة لأنك غير سعيد في حياتك الزوجية (مرة أخرى).. ثم أنا أتجه إلى ذلك المقهى لأنني أبحث عن بديل عن المنزل، وعن زوجتي التي تشعرني بالشتاء, وأنا لا أرى ما الذي يوجد داخل المقهى؛ لأنه لا يوجد بديل لي عن زوجتي، وأنا لا أعرف هذا لكن عقلي الباطن يدركه
الخلاصة أن هذا الحلم يحذرني من أنني لو حاولت ترك زوجتي, فسوف أصاب بالدرن في الشتاء، وسأموت بسيارة تدهسني لأنني وغد وأستحق الموت جزاء خيانتي
كان هذا هو تفسير زوجتي بالطبع.. باقي التفسيرات تتلخص في أنني سأحصل على صفقة جديدة في عملي قريبًا، أو سأمر بأزمة صحية خطيرة، أو سأرزق بابن، أو سأصاب بالعقم، أو سأعرف سرًا مهمًا، أو سأصاب بالخبال لأجوب الطرقات ولأعيش مما سأحصل عليه من مسح واجهات المقاهي الزجاجية.. وكلها تفسيرات لا بأس بها أبدًا طالما مصدرها صديقات زوجتي العزيزة, وكل ما عليّ فعله في الفترة القادمة هو عدم أكل الثوم في العشاء والإبتعاد عن المقاهي
هكذا قررت أن أنسى موضوع التفسير، وأن أتوقف عند نقطة التكرار
لماذا يتكرر ذات الحلم كل ليلة؟
ومتى سيتوقف؟.. أو
هل سيتوقف؟؟
*******
لكنه استمر في زيارتي كل ليلة حتى بات النوم في المساء بالنسبة لي, مجهودًا شاقًا لا أطيق احتماله.. تخيل أن تشاهد ذات الفيلم كل ليلة دون أن تفهم منه شيئًا، ودون أن تقدر على تغييره
تخيل أن تتحول لياليك إلى ذات الروتين مهما فعلت ومهما قاومت.. أيوجد ما هو أسخف من هذا؟
ثم إنه يتوقف كل ليلة عند ذات النقطة تاركًا ذات السؤال معلقًا في رأسي طيلة فترة استيقاظي
ما الذي أراه داخل المقهى ويجعلني أرتجف بهذه الصورة؟؟
سؤال قادر على التهام عقلك لو مررت بما أمر به, وهي رفاهية لا أملكها أنا للأسف
فهنا في البورصة حيث أعمل, لا يمكن لأي شيء أن يشغل بالك إلا إذا كان له علاقة بالأسهم والأرقام؛ وإلا فهي نهايتك في هذا المجال وإلى الأبد
إنه قانون البورصة الراسخ
الخطأ الأول هو الخطأ الأخير..
لن أشرح لك عملي بالضبط من باب الرحمة؛ لكن هل شاهدت أي بورصة في الواقع أو في التلفاز أو على شاشة السينما؟.. أرأيت ذوي البذلات والسماعات في آذانهم الذين يتحركون كالنحل وهم يصرخون طيلة الوقت دون أن يسمع أحدهم الآخر؟؟.. أنا واحد من هؤلاء
أحمل حقيبتي وأصرخ في البورصة طيلة النهار, ثم أعود منهكًا لأرتجف أمام المقهى في المساء دون ذنب ودون أن أفهم
فقط حين حصلت على ثلاث دقائق راحة ذات مرة في العمل, حكيت لأحد زملائي عن حلمي العجيب دون أن أنتظر منه تفسيرًا.. مجرد محاولة للتنفيس كي لا تفتك الحيرة بي لوحدي.. لكن زميلي هذا أصغى لي في هدوء تام, ثم قال ببساطة
ـ و لماذا لا تحاول الدخول؟
ـ ماذا؟
ـ حاول دخول المقهى في حلمك.. خوفك يوقظك كل مرة؛ لكن لو دخلت ستعرف إجابة سؤالك.. جرّب لن تخسر شيئًا
بالطبع لم يقنعني اقتراحه حينها, بل وجدته ينم عن حماقة لا حد لها
أولاً: أنا لا أملك أي سيطرة على نفسي داخل الحلم؛ وإلا لما اتجهت إلى المقهى أصلاً.. ثانيًا: لو كان ما رأيته جعلني أرتجف, فلماذا أدخل إليه طواعية؟!.. ثالثًا: من قال أنني لن أخسر شيئًا؟
ربما أموت في الحلم لأهلك على أرض الواقع.. قرأت عن هذا ذات مرة لكن لا أذكر أين.. شيء عن عقلنا البشري الذي لا يجيد التمييز بين الواقع والخيال في ظروف ما, ليتوقف عن العمل لو اعتقد أن الجسد هلك مسببًا الوفاة.. هذا هو العقل البشري الذي لا نملك إلا الاعتماد عليه هنا في البورصة, بعد هذا يتساءل الكل لماذا تنهار البورصة فجأة؟
المهم أنني قررت تجاهل اقتراحه تمامًا حتى أتى المساء.. حينها قررت أن أجرّب حظي
سأحاول دخول المقهى في حلمي، وليكن ما يكون
*******